فصل: قال الشنقيطي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



واستظهر أن المراد به هنا الأول وسيأتي قريبًا إن شاء الله تعالى تمام الكلام في ذلك، وأكثر ما ينبت في المواضع التي زاد عرضها على الميل واشتد بردها وكانت جبلية ذات تربة بيضاء أو حمراء، ثم النخيل على الأعناب لظهور دوامها بالنسبة إليها فإن الواحدة منها كثيرًا ما تتجاوز مائة سنة وشجرة العنب ليست كذلك، نعم الزيتون أكثر دوامًا منهما فإن الشجرة منه قد تدوم ألف سنة مع أن ثمرتها كثيرًا ما يقتات بها حتى جاء في الخبر {ما جاع بيت وفيه تمر} وأكثر ما تنبت في البلاد الحارة اليابسة التي يغلب عليها الرمل كالمدينة المشرفة والعراق وأطراف مصر، وهي على ما قال الراغب جمع نخل وهو يطلق على الواحد والجمع ويقال للواحدة نخلة، وأما الأعناب فجمع عنبة بكسر العين وفتح النون والباء وقد جاءت ألفاظ مفردة على هذا الوزن غير قليلة.
وقد ذكر في القاموس عدة منها، ونسب الجوهري إلى قلة الاطلاع في قوله: إن هذا البناء في الواحد نادر وجاء منه العنبة والتولة والحبرة والطيبة والخيرة ولا أعرف غير ذلك، وذكر الجوهري أنه إن أردت جمعه في أدنى العدد جمعته بالتاء وقلت عنبات وفي الكثير عنب وأعناب اه، ولينظر هذا مع عدهم أفعالًا من جموع القلة، ويطلق العنب كما قال الراغب على ثمرة الكرم وعلى الكرم نفسه، والظاهر أن المراد هو الثاني.
وذكر أبو حيان في وجه تأخير الأعناب إن ثمرتها فاكهة محضة، وفيه إنه إن أراد بثمرتها العنب ما دام طريًا قبل أن يتزبب فيمكن أن يسلم وإن أراد به المتزبب فغير مسلم، وفي كلام كثير من الفقهاء في بحث زكاة الفطر أن في الزبيب اقتياتًا بل ظاهر كلامهم أنه في ذلك بعد التمر وقبل الأرز، والباحث في هذا لا ينفي الاقتيات كما لا يخفى على الواقف على البحث، وفي جمع النَّخِيلِ والأعناب إشارة إلى أن ثمارها مختلفة الأصناف ففي التذكرة عند ذكر التمر أنه مختلف كثير الأنواع كالعنب حتى سمعت أنه يزيد على خمسين صنفًا، وعند ذكر العنب أنه يختلف بحسب الكبر والاستطالة وغلظ القشر وعدم العجم وكثرة الشحم واللون والطعم وغير ذلك إلى أنواع كثيرة كالتمر اه، وأنا قد سمعت من والدي عليه الرحمة أنه سمع في مصر حين جاءها بعد عوده من الحج لزيارة أخيه المهاجر إليها لطلب العلم أن في نواحيها من أصناف التمر ما يقرب من ثلثمائة صنف والعهدة على من سمع منه هذا، وللعلامة أبي السعود هنا ما يشعر ظاهره بالغفلة وسبحان من لا يغفل وكان الظاهر تقديم غذاء الإنسان لشرفه على غذاء ما يسام لكن قدم ذاك على ما قال الإمام للتنبيه على مكارم الأخلاق وأن يكون اهتمام الإنسان بمن تحت يده أقوى من اهتمامه بنفسه، والعكس في قوله تعالى: {كُلُواْ وارعوا أنعامكم} [طه: 54]. للإيذان بأن ذلك ليس بلازم وإن كان من الأخلاق الحميدة، وهو على طبق ما ورد في الخبر: «ابدأ بنفسك ثم بمن تعول» وقيل: لأن ذلك مما لا دخل للخلائق فيه ببذر وغرس فالامتنان به أقوى، وقيل: لأن أكثر المخاطبين من أصحاب المواشي وليس لهم زرع ولا شيء مما ذكر، وقال شهاب الدين في وجه ذلك.
ولك أن تقول لما سبق ذكر الحيوانات المأكولة والمركوبة ناسب تعقيبها بذكر مشربها ومأكلها لأنه أقوى في الامتنان بها إذ خلقها ومعاشها لأجلهم فإن من وهب دابة مع علفها كان أحسن، كما قيل: من الظرف هبة الهدية مع الظرف. اهـ. ولا يخلو عن حسن.
والأولى عليه أن يراد من قوله تعالى: {لَّكُم مَّنْهُ شَرَابٌ} [النحل: 10]. ما يشرب، وأما ما قيل: إن ما قدم من الغذاء غذاء للإنسان أيضًا لكن بواسطة فإنه غذاء لغذائه الحيواني فلا يدفع السؤال لأنه يقال بعد: كان ينبغي تقديم ما كان غذاء له بغير واسطة، لا يقال: هذا السؤال إنما يحسن إذا كان المراد من المتعاطفات المذكورات ثمراتها لا ما يحصل منها الثمرات لأن ذلك ليس غذاء الإنسان لأنا نقول: ليس المقصود من ذكرها إلا الامتنان بثمراتها إلا أنها ذكرت على نمط سابقها المذكور في غذاء الماشية ويرشد إلى أن الامتنان بثمراتها قوله سبحانه: {وَمِن كُلّ الثمرات} وإرادة الثمرات منها من أول الأمر بارتكاب نوع من المجاز في بعضها لهذا إهمال لرعاية غير أمر يحسن له حملها على ما قلنا دون ذلك، منه {يُنبِتُ} إذ ظاهره يقتضي التعلق بنفس الشجرة لا بثمرتها فليعمل بما يقتضيه في صدر الكلام وإن اقتضى آخره اعتبار نحو ما قيل في:
علفتها تبنًا وماء باردًا

كذا قيل وفيه تأمل، ومنع بعضهم كون الإنبات مما يقتضي التعلق المذكور فقد قال سبحانه: {فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا وَقَضْبًا وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا وَحَدَائِقَ غُلْبًا وفاكهة وَأَبًّا} [عبس: 27-31]، وجوز أن لا يكون الملحوظ فيما عد مجرد الغذائية بل ما يعمها وغيرها على معنى ينبت به لنفعكم ما ذكر والنفع يكون بما فيه غذاء وغيره، و{مِنْ} للتبعيض والمعنى وينبت لكم بعض كل الثمرات، وإنما قيل ذلك لما في الكشاف وغيره من أن كل الثمرات لا تكون إلا في الجنة وإنما أنبت في الأرض بعض من كل للتذكرة، وقال بعض الأجلة: المراد بعض مما في بقاع الإمكان من ثمر القدرة الذي لم تجنه راحة الوجود، وهو أظهر وأشمل وأنسب بما تقدم لأنه سبحانه كما عقب ذكر الحيوانات المنتفع بها على التفصيل بقوله تعالى: {وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [النحل: 8]. عقب ذكر الثمرات المنتفع بها بمثله {إِنَّ في ذَلِكَ} المذكور من إنزال الماء وإنزال ما فصل {لآيَةً} عظيمة دالة على تفرده تعالى بالإلهية لاشتماله على كمال العلم والقدرة والحكمة {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} فإن من تفكر في أن الحبة والنواة تقع في الأرض وتصل إليها نداوة تنفذ فيها فينشق أسفلها فيخرج منه عروق تنبسط في الأرض وربما انبسطت فيها وإن كانت صلبة وينشق أعلاها وإن كانت منتكسة في الوقوع فيخرج منها ساق فينمو فيخرج منه الأوراق والأزهار والحبوب والثمار المشتملة على أجسام مختلفة الأشكال والألوان والخواص والطبائع وعلى نواة قابلة لتوليد الأمثال على النمط المحرر لا إلى نهاية مع اتحاد الماء والأرض والهواء وغيرها بالنسبة إلى الكل علم أن من هذه آثاره لا يمكن أن يشبهه شيء في شيء من صفات الكمال فضلًا عن أن يشاركه في أخص صفاته التي هي الألوهية واستحقاق العبادة أخس الأشياء كالجماد تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا، ولله تعالى در من قال:
تأمل في رياض الورد وانظر ** إلى آثار ما صنع المليك

عيون من لجين شاخصات ** على أهدابها ذهب سبيك

على قضب الزبرجد شاهدات ** بأن الله ليس له شريك

وحيث كان الاستدلال بما ذكر لاشتماله على أمر خفي محتاج إلى التفكر والتدبر لمن له نظر سديد ختم الآية بالتفكر. اهـ.

.قال الشنقيطي:

قوله تعالى: {وعلى الله قَصْدُ السبيل وَمِنْهَا جَآئِرٌ}.
اعلم أولًا- أن قصد السبيل: هو الطريق المستقيم القاصد، الذي لا اعوجاج فيه، وهذا المعنى معروف في كلام العرب، ومنه قول زهير بن أبي سلمى المزني:
صحا القلب عن سلمى وأقصر باطله ** وعرى أفراس الصبا ورواحله

وأقصرت عما تعلمين وسددت ** علي سوى قصد السبيل معادله

وقول امرئ القيس:
ومن الطريقة جائر وهدى ** قصد السبيل منه ذو دخل

فإذا علمت ذلك فاعلمك أن في معنى الآية الكريمة وجهين معروفين للعماء، وكل منهما له مصداق في كتاب الله، إلا أن أحدهما أظهر عندي من الآخر.
الأول منهما- أن معنى {وعلى الله قَصْدُ السبيل} أن طريق الحق التي هي قصد السبيل على اللهن أي موصلة إليه، ليست حائدة، ولا جائرة عن الوصول إليه وإلى مرضاته. {وَمِنْهَا جَآئِرٌ}. أي ومن الطريق جائر لا يصل إلى الله، بل هو زائغ وحائد عن الوصول إليه، ويشهد لهذا المعنى قوله تعالى: {وَأَنَّ هذا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فاتبعوه وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153]، وقوله: {وَأَنِ اعبدوني هذا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} [يس: 61].
ويؤيد هذا التفسير قوله بعده: {وَمِنْهَا جَآئِرٌ} وهذا الوجه أظهر عندي، واستظهره ابن كثير وغيره، وهو قول مجاهد.
الوجه الثاني: أن معنى الآية الكريمة: {وعلى الله قَصْدُ السبيل} أي عليه جل وعلا أن يبين لكم طريق الحق على ألسنة رسله.
ويدل لهذا الوجه قوله تعالى: {رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرسل} [النساء: 165]، وقوله: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]، وقوله: {فَإِنَّمَا على رَسُولِنَا البلاغ المبين} [التغابن: 12]. إلى غير ذلك من الآيات.
وعلى هذا القول، فمعنى قوله: {وَمِنْهَا جَآئِرٌ} غير واضح، لأن المعنى: ومن طريق جائر عن الحق، وهو الذي نهاكم الله عن سلوكه، والجائر: المائل عن طريق الحق، والوجهان المذكوران في هذه الآية جاريان في قوله: {إِنَّ عَلَيْنَا للهدى} [الليل: 12]. الآية.
قوله تعالى: {وَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِين}.
بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه لو شاء هداية جميع خلقه لهداهم أجميعن، وأوضح هذا المعنى في آيات أخر، كقوله: {وَلَوْ شَاء الله لَجَمَعَهُمْ عَلَى الهدى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الجاهلين} [الأنعام: 35]، وقوله: {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة: 13]. الآية، وقوله: {وَلَوْ شَاء الله مَا أَشْرَكُواْ} [الأنعام: 107]، وقوله: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأرض كُلُّهُمْ جَمِيعًا} [يونس: 99]. الاية، وقوله: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً} [هود: 118]. الآية، إلى غير ذلك من الآيات، وقد قدمنا هذا في سورة يونس.
قوله تعالى: {هُوَ الذي أَنْزَلَ مِنَ السماء مَاء لَّكُم مَّنْهُ شَرَابٌ}.
تقدم جل وعلا: {وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ الزرع والزيتون والنخيل والأعناب وَمِن كُلِّ الثمرات إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 10-11].
بين جل وعلا في هذت الأية الكريمة أن إنباته بالماء ما يأكله الناس من الحبوب والثمار، وما تأكله المواشي من المرعى- من أعظم نعمه على بني آدم، ومن أوضح آياته الدالة على أنه المستحق لأن يعبد وحده، وأوضح هذا المعنى في آيات كثيرة، كقوله: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَسُوقُ الماء إِلَى الأرض الجرز فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلاَ يُبْصِرُونَ} [السجدة: 27]، وقوله: {الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنزَلَ مِنَ السماء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّن نَّبَاتٍ شتى كُلُواْ وارعوا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لأُوْلِي النهى} [طه: 54]، وقوله: {والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا والجبال أَرْسَاهَا مَتَاعًا لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ} [النازعات: 30-33]، وقوله: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السماء مَاء مُّبَارَكًا فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الحصيد والنخل بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ رِّزْقًا لِّلْعِبَادِ} [ق: 9-11]. الآية وقوله: {أَمَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ السماء مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَآئِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا أإله مَّعَ الله بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} [النمل: 60]، وقوله: {وَأَنزَلْنَا مِنَ المعصرات مَاء ثَجَّاجًا لِّنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا} [النبأ: 14-16]، والآيات بمثل هذا كثيرة جدًا.
تنبيهان:
الأول: اعلم أن النظر في هذه الآيات واجب، لما تقرر في الأصول: أن صيغة الأمر تقتضي الوجوب إلا لدليل يصرفها عن الوجوب، والله جل وعلا أمر الإنسان أن ينظر إلى طعامه الذي به حياته، ويفكر في الماء الذي هو سبب إنبات حبه- من أنزله!؟ ثم بعد إنزال الماء وري الأرض من يقدر على شق الأرض عن النبات وإخراجه منها!؟ ثم من يقدر على إخراج الحب من ذلك النبات!؟ ثم من يقدر على تنميته حتى يصير صالحًا للأكل!؟ {انظروا إلى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ} [الأنعام: 99]. الآية، وذلك في قوله تعالى: {فَلْيَنظُرِ الإنسان إلى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الماء صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الأرض شَقًّا فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا وَقَضْبًا وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا وَحَدَآئِقَ غُلْبًا وَفَاكِهَةً وَأَبًّا مَّتَاعًا لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ} [عبس: 24-32].
وكذلك يجب على الإنسان النظر في الشيء الذي خلق منهن لقوله تعالى: {فَلْيَنظُرِ الإنسان مِمَّ خُلِقَ} [الطارق: 5]، وظاهر القرآن: ان النظر في ذلك واجب، ولا دليل يصرف عن ذلك.
التنبيه الثاني: اعلم أنه جل وعلا أشار في هذه الآيات من أول سورة النحل إلى براهين البعث الثلاثة، التي قدمنا أن القرآن العظيم يكثر فيه الاسستدلال بها على البعث.
الأول: خلق السموات والأرض المذكور في قوله: {خَلَقَ السماوات والأرض بالحق} [النحل: 3]. الآية، والاستدلال بذلك على البعث ثير في القرآن، كقوله: {أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السماء بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا} [النازعات: 27-28]. إلى قوله: {مَتَاعًا لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ} [النازعات: 33]، وقوله: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ على أَن يُحْيِيَ الموتى} [الأحقاف: 33]، وقوله: {لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس} [غافر: 57]. الآية، وقوله: {أَوَلَيْسَ الذي خَلَقَ السماوات والأرض بِقَادِرٍ على أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بلى وَهُوَ الخلاق العليم} [يس: 81]. إلى غير ذلك من الآيات كما تقدم.
البرهان الثاني: خلق الإنسان أولًا المذكور في قوله: {خَلَقَ الإنسان مِن نُّطْفَةٍ} [النحل: 4]. لأن من اخترع قادر على الإعادة ثانيًا، وهذا يكثر الاستدلال به أيضًا على ابعث، كقوله: {قُلْ يُحْيِيهَا الذي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس: 79]، وقوله: {وَهُوَ الذي يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَن} [الروم: 27]. الآية، وقوله: {يا أيها الناس إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ البعث فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ} [الحج: 5]، وقوله: {أَفَعَيِينَا بالخلق الأول بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} [ق: 15]. إلى غير ذلك من الآيات كما تقدم.
البرهان الثالث: إحياء الأرض بعد موتها المذكور هنا في قوله: {يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ الزرع والزيتون والنخيل والأعناب} [النحل: 11]. الآية، فإنه يكثر في القرآن الاستدلال به على البعث أيضًا، كقوله: {فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الماء اهتزت وَرَبَتْ إِنَّ الذي أَحْيَاهَا لَمُحْىِ الموتى} [فصلت: 39]، وقوله: {وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَلِكَ الخروج} [ق: 11]. أي كذلك الأحياء خروجكم من قبوركم أحياء بعد الموت، وقوله: {وَيُحْيِي الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} [الروم: 19]. أي من قبوركم أحياء بعد الموت، وقوله: {حتى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الماء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثمرات كذلك نُخْرِجُ الموتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 57]، وقوله: {وَتَرَى الأرض هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الماء اهتزت وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ذلك بِأَنَّ الله هُوَ الحق وَأَنَّهُ يُحْيِي الموتى وَأَنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الحج: 5-6]. إلى غير ذلك من الآيات كما تقدم فهذه البراهين الثلاثة يكثر جدًا الاستدلال على البعث في كتاب الله كما رأيت وكما تقدم.
وهناك برهان رابع يكثر الاستدلال به على البعث أيضاَ ولا ذكر له في هذه الأيات، وهو إحياء الله بعض الموتى في دار الدنيا، كنا تقدمت الإشارة إليه في سورة البقرة، لأن من أحيا نفسًا واحدة بعد موتها قادر على إحياء جميع النفوس: {مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [لقمان: 28].
وقد ذكر جل وعلا هذا البرهان في سورة البقرة في خمسة مواضع.
الأول: قوله: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 56].
الثاني: قوله: {فَقُلْنَا اضربوه بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي الله الموتى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [البقرة: 73].
الثالث: قوله جل وعلا: {فَقَالَ لَهُمُ الله مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} [البقرة: 243].
الرابع: قوله: {فَأَمَاتَهُ الله مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فانظر إلى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وانظر إلى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وانظر إِلَى العظام كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
[البقرة: 259].
الخامس: قوله تعالى: {قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطير فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجعل على كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادعهن يَأْتِينَكَ سَعْيًا واعلم أَنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 260].
وقوله تعالى: في هذه الآية الكريمة: {وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ} [النحل: 10]. اي ترعون مواشيكم السائمة في ذلك الشجر الذي هو المرعى، والعرب تطلق اسم الشجر على كل ما تنبته الأرض من المرعى، ومنه قل النمر بن تولب العكلي:
إنا أتيناك وقد طال السفر ** نقود خيلا ضمرا فيها صعر

نطعمها اللحم إذا عز الشجر

والعرب تقول: سامت المواشي إذا رعت في المرعى الذ ينبته الله بالمطر، وأسامها صاحبها: اي رعاها فيه، ومنه قول الشاعر:
مثل ابن بزعة أو كآخر مثله ** أولى لك ابن مسيمة الأجمال

يعني يا بن راعية الجمال التي تسميها في المرعى.
وقوله: {يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ الزرع} [النحل: 11]. قرأه شعبة عن عاصم: {ننبت} بالنون والباقون بالياء التحتية. اهـ.